نصوص من كتاب "مناقب بشر الحافي" المفقود لابن الجوزي

نصوص من كتاب "مناقب بشر الحافي" المفقود لابن الجوزي

هذا الكتاب (مناقب بشر الحافي) كتابٌ مهمٌّ من مجموعة مؤلفات الإمام ابن الجوزي التي وضعها في مناقب عدد من الصحابة والتابعين والأئمة الكبار، ومما يؤسف له أن لا نعرف له نسخة اليوم.

وقد تتبعتُ أخباره والنقول عنه، فوقفتُ على عددٍ من النقول، أوردها فيما يأتي:

♦♦♦♦

1- قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل (1 /65):

(وذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتابهِ الذي صنَّفهُ في أخبار بشر بن الحارث الحافي رضي الله عنه في "الباب السادس والأربعين" ما صورتُه:

حدَّثَ إبراهيمُ الحربي قال:

رأيتُ بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنه خارجٌ من باب مسجد الرصافة وفي كمه شيء يتحرَّك، فقلت: ما فعل الله بك؟

فقال: غفر لي وأكرمني.

فقلت: ما هذا الذي في كمك؟

قال: قدم علينا البارحة روح أحمد بن حنبل فنُثِرَ عليه الدر والياقوت، فهذا ممّا التقطتُ.

قلت: فما فعلَ يحيى بن معين وأحمد بن حنبل؟

قال: تركتُهما وقد زارا ربَّ العالمين، ووُضِعتْ لهما الموائد.

قلت: فلِمَ لَمْ تأكل معهما أنتَ؟

قال: قد عرَفَ هوانَ الطعام علي فأباحني النظر إلى وجهه الكريم).

♦♦♦♦

2- وقال ابنُ خلكان أيضًا في ترجمة الواقدي (4 /349):

(وروى عنه بشر الحافي - المُقدَّم ذكرُه - رضي الله عنه، حكاية واحدة، وهي أنه سمعه يقول:

ما يُكتبُ للحمّى:

يؤخذ [ثلاث] ورقات زيتون، تَكتب يوم السبت وأنت على طهارة: على واحدة منها: جهنم غرثى، وعلى الأخرى: جهنم عطشى، وعلى الأخرى: جهنم مقرورة، ثم تجعل في خرقة وتشد على عضد المحموم الأيسر.

قال الواقدي المذكور: جربتُه فوجدته نافعًا.

هكذا نقلَ هذه الحكاية أبو الفرج ابن الجوزي في كتابهِ الذي وضعه في أخبار بشر الحافي).

وليت ابن خلكان نقل الحكاية بإسنادها، لضرورته في مثل هذه الأخبار.

♦♦♦♦

3- وجاء في ترجمة بشر في"المنتقى من طبقات الأولياء" للشيخ موسى الكناوي (ت: 976هـ):

قال ابنُ الجوزي:

مروزيُّ الأصل، من قريةٍ على ستَّة أميال من مرو، يُقال لها ماترْسام بالتاء المعجمعة فوق.

وكان من أبناء الرؤساء والكتبة.

ووُلد سنة خمسين ومئة بمرو.

ولم يملك بشرٌ ببغداد ملكًا قط، وكان لا يأكل من غلّة بغداد ورعاً، لأنَّها من أرض السواد التي لم تقسم.

وكان في حداثته يطلب العلم، ويمشي في طلبه حافيًا، فغلب عليه ذلك حتى اشتهر بهذا الاسم.

وعن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: رأيت قدَميْ بشر قد اسودَّا من أثر التراب ممّا يمشي.

فإنْ قيل: ما وجهُ اختياره التحفّي في طلب العلم؟

فالجوابُ مِنْ وجهين:

الأول:

أنه كان يُؤثِرُ الزهدَ، وترْكَ التنعُّم، وكان تحفِّيه مُضافًا إلى بقية أفعاله، وقد كان السلف يأمرون بترك التنعُّم، قال عمرُ بن الخطاب: إياكم والتنعُّم. وقال مسعر: من طلب الحديث فليتقَشَّف، وليمش حافيًا.

الثاني:

أنه قد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمهُما الله على النار"، فرأى بشرٌ أنَّ طالب العلمَ يمشي في سبيل الله، فأحبَّ تعميم القدمين بالغبار، والحديث الآخر الصحيح: "إنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم" فكان جماعة من طلبة العلم يتحفُّون في طلبه أخذًا بظاهر اللفظ احترامًا لأجنحة الملائكة عليهم السلام.

ولم يتزوج قط، ولم يعرفِ النساء، قيل له: لِمَ لا تتزوج؟

قال: لو أظلَّني زمنُ عمر وأعطاني كنتُ أتزوّج.

وقيل له: لو تزوّجتَ تمّ نسكك.

فقال: أخاف أن تقوم بحقّي ولا أقوم بحقِّها، قال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228].

وكان يَعمل المغازل ويعيش منها حتى مات، وكان لا يقبل من أحد شيئًا عطيةً أو هديةً سوى رجل من أصحابه ربّما قَبِل منه، وقال: لو علمتُ أنَّ أحدًا يُعطي لله لأخذتُ منه، ولكن يُعطي بالليل ويتحدَّثُ بالنهار.

وقال: ما أسوأ حالَ مَنْ إذا أصبح مدَّ عينيه إلى قرصيه مِنْ يدي غيره.

وقال لابن أخته عمر: يا بني، الزمِ العملَ؛ فإنَّ أثره في الكفين أحسنُ من أثر السجدة بين العينين.

وقال: لا تزوّجِ البخيلَ ولا تعامله، ما أقبحَ بالقارىء أن يكون بخيلًا!

وقال: ليس شيءٌ من أعمال البرِّ أحبَّ إليَّ من السخاء، ولا أبغض إليَّ من الضيق وسوء الخُلُق.

وسُئل أحمد بن حنبل مسألة في الورع، فقال: أستغفر الله، لا يحلُّ لي أن أتكلَّمَ في الورع، أنا آكل من غلّةِ بغداد، لو كان بشرٌ صلح أن يجيبك عنه، فإنه كان لا يأكل من غلة بغداد، ولا من طعام السواد، يصلح أن يتكلم في الورع.

وعن إبراهيم الحربي قال: مضيت يومًا مع أحمد بن حنبل إلى الجامع، فبينا نحن نمشي في الطريق قال قائلٌ: يا أبا عبد الله، بشرٌ وراءك. فوقف أحمد بن حنبل بمن معه، فجاء بشرٌ، فلا هذا سلّم على هذا، ولا هذا سلّم على هذا، ومرَّ بشرٌ، فقال أحمد: سبحان الله، ما أعقله، من قرنِهِ إلى قدمِهِ عقل.

وقال بشر: مَنْ أراد أن يكون عزيزًا في الدنيا، سليمًا في الآخرة، فلا يُحدّث، ولا يشهد، ولا يؤم قومًا، ولا يأكل لأحدٍ طعامًا.

وقال: الأكلُ لكلِّ شيءٍ يذهب بالدِّين.

وقال: إذا قلَّ عملُ العبد ابتُلي بالهمِّ.

وقال: ما من أحدٍ خالط لحمَه ودَمَه ومشاشَهُ حبُّ النبي صلى الله عليه وسلم فيرى النار.

وقال: كانوا لا يأكلون تلذُّذًا، ولا يلبسون تنعُّمًا، وهذا طريقُ الآخرة والأنبياء والصالحين، فمن زعم أنَّ الأمرَ في غير هذا فهو مفتون.

ونظرَ إلى الفاكهة، فقال: تركُ هذه عبادة. ثم التفتَ إلى سجن باب الشام، فقال: ما هذا؟ قالوا: سجنٌ. فقال: هذه الشهوات أدخلت هؤلاء هذا المدخل.

وقال: الفكرة في أمر الآخرة يقطعُ حبَّ الدنيا، ويُذهبُ شهواتها.

وقال: ليس من المروءة أن تحبَّ ما يُبغضُ حبيبُك.

وقال: من طلبَ الدنيا فليتهيأ للذُّلِّ.

وقال: لا تأكل من حلواهم، فتميل مع هواهم.

وقال: إذا أردتَ طريق أهل الصدق والمحاسبة، فلا تحلفْ بالله صادقًا ولا كاذبًا؛ فإنك إذا حفظتَ ذلك على نفسك، وعوّدته لسانك، دفعك ذلك إلى أن تدع الحلف على كلِّ حال، وإذا تركت ذلك صادقًا فأنت غير شك غيرُ حالف كاذبًا. ولا تكذبن في جدٍ ولا هزل؛ فإنك إذا أحكمتَ ذلك في سرِّك ولسانك دخلتَ في مذاهب الصدّيقين.

ولا تعدْ أحدًا شيئًا أنت تقدر عليه، فهو أسلم لك.

ولا تعيِّرْ شيئًا مما خلق الله ولا تؤذه؛ فإنك إذا فعلت ذلك دخلت في منازل الأبرار والأبدال. ولا تدعونَّ على أحدٍ وإنْ ظلمك، ولا تنقصه بلسانك، ولا تكافئه بسوء، واكظم غيظك، فإنَّ ذلك يدعوك إلى سلامةِ صدرك، وينوّر سلطان نفسك، وهو من أعظم أحوال الأبدال.

ولا تنظر إلى شيءٍ من المخالفة تعمُّدًا؛ فإنَّ ذلك من أشدّ الأعمال ثوابًا وعقابًا.

قال رجلٌ لبشر: أوصني. قال: أخملْ ذكرَك، وأطبْ مطعمك.

وقال: صحبةُ الأشرار تورث سوء الظنِّ بالأخيار.

وقال: الحلال لا يحتمل السّرَف.

وقال: الأخذ من الناس مذلّة.

وقال: مَنْ ضبط بطنَه، فقد ضبطَ الأخلاقَ الصالحة كلَّها.

وقيل له: ماعقوبة العالم؟

قال: إذا أحبَّ الدنيا عمي بصرُ قلبه.

وقال: من حزن على الدنيا ذهب حزنُ الآخرة من قلبه، ومَنْ أحبَّ الدنيا للدنيا ذهب حبُّ الآخرة من قلبه.

وقال: لأن يلقى الله العبدُ وفي قلبه من الورع ما يزنُ هذه التبنة -وأشار إلى تبنةٍ رفعها من الأرض بيده- أفضلُ مِنْ أنْ يلقاه بأعمالِ أهل الأرض من النوافل، وليس له ورع.

انتهى ما أورده ابنُ الجوزي في "مناقب بشر" رضي الله عنه).

ونقله ابنُ العماد في ترجمة بشر في "شذرات الذهب" عازيًا إياه إلى "طبقات الأولياء" للسخاوي، ونسبتُه إلى السخاوي خطأ.

♦♦♦♦

ومن المحتمل أن تكون ترجمة ابن الجوزي لبشر في كتابه "صفة الصفوة" من كتابه المبسوط عنه، وأن تكون ترجمة ابن خلكان له من كتاب ابن الجوزي المفرد فإنه كان تحت يده كما رأينا، وإن كان لم يذكره في ترجمته.

♦♦♦♦

وهذا الكتاب (مناقب بشر) ذكره بروكلمان وذَكَرَ "هوتسما" بما يفيد أنه في (مخطوطاته) في ليدن، ولم يذكرْ له رقمًا. ولا وجود له في فهارسها، كما أفادني الأستاذ محمد زاهد أبو غدة، ولذلكَ تفصيلٌ لعلّي أفردهُ بمقالٍ.

يسَّر اللهُ العثور عليه بمنِّهِ وكرمهِ.